الرئيسية / قوة العراق الناعمة.. هل يمكن استثمار الثقافة والتاريخ في التنمية الاقتصادية؟

قوة العراق الناعمة.. هل يمكن استثمار الثقافة والتاريخ في التنمية الاقتصادية؟

ما الذي يجمع بين كوريا الجنوبية وبلدان العالم العربي؟ ربما تكون الإجابة للوهلة الأولى هي: لا شيء، لكننا سنكتشف أن قطاعات واسعة من الأجيال العربية الصغيرة تعرف كل شيء عن كوريا الجنوبية؛ ثقافتها، أطباقها، غناؤها، بل ولغتها أيضاً، تلك اللغة التي لم تكن حتى عهد قريب معروفة خارج حدود شبه الجزيرة الكورية؛ إلا من قبل الراغبين بتعلمها لأغراض سياسية وبحثية؛ باتت اليوم واسعة الانتشار، بكل ما يرتبط بها من شعر وفن وتقاليد أيضاً.
ما هي كلمة السر أو ضربة الحظ التي جعلت لتلك اللغة المعزولة في زاوية ما من شرق العالم كل هذا الانتشار فجأة في أصقاع الدنيا المختلفة؟ إنها بكل بساطة الدراما، والتي تحولت إلى قاطرة جرّت معها الغناء بكل أنواعه، بالإضافة للفنون الأخرى، والتي فتحت عيون الشعوب الأخرى على "الهاليو" أو الموجة الثقافية الكورية، وفتحت أبواب "سيول" أيضاً على ملايين السياح من مختلف الدول كل عام.
ولنا أن نتخيل أن هذه الصناعة –الدراما- أدت على سبيل المثال إلى ارتفاع صادرات منتجات العناية بالبشرة ومستحضرات التجميل الكورية بشكل سريع خلال بضع سنوات، ففي 2015 صدّرت سيول مستحضرات تجميل بقيمة 2.64 مليار دولار، وفي 2017 أعلن رئيس كوريا الجنوبية مون جاي أن هدفه نشر المسلسلات والأفلام والموسيقى الكورية إلى 100 مليون شخص في غضون 5 أعوام.
والحديث عن تجربة كوريا الجنوبية في التسويق لنفسها في العالم، وتبعات ذلك التي أنعشت اقتصادها، ودفعت به إلى الأمام ليحل في المرتبة الخامسة عشر عالمياً، وضمن مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم، وفي مقدمة "النمور الآسيوية"، كل ذلك يقودنا للاقتراب من مفهوم "القوة الناعمة"، الذي صاغه جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد، والذي يعني "أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره".
وفي الماضي القريب كان العراق يمتلك قوة ناعمة هائلة، يعرفها كل من سافر خارج العراق قبل الإحتلال، حيث كانت صورة العراق في أنظار معظم الشعوب الأخرى كبيرة ولامعة، بغض النظر عن إشكالات الحكم وطبيعته، والصراع حوله.
في العراق مثلا قبور ومساجد أنبياء كالنبي يونس، وصحابة كعلي بن أبي طالب وابنه الحسين، بالإضافة إلى الزبير وطلحة، وفيه عاش ودفن أبو حنيفة النعمان، وهو صاحب أكبر المذاهب الإسلامية اليوم، حيث يعتنق مذهبه مئات الملايين في البلاد العربية وتركيا والهند وباكستان وغيرها، وموسى الكاظم؛ الإمام السابع للشيعة الإمامية، وكذلك الشيخ عبد القادر الگيلاني وهو أحد أقطاب الصوفية الكبار، والذي يحتل مكانة في التصوف لا يضاهيه فيها أحد لدى أصحاب الطرق.
وفوق أرضه قامت إحدى أكبر الإمبراطوريات في التاريخ الإسلامي وهي الدولة العباسية، والتي صنعت الجزء الأكثر تشويقاً في المخيال العربي والإسلامي، بكل ما ارتبط بها من ثقافة ومعرفة وآداب وفنون، حتى باتت بغداد عاصمة النور في العصور الوسطى المظلمة.
فضلاً عن العديد من الأسماء التي حفلت بها صفحات التاريخ العراقي الحديث، من أدباء وفنانين وساسة وغيرهم.
ولو وظفت الحكومات السابقة هذا الثراء التاريخي والثقافي والإنساني لأصبح العراق من أغني بلدان العالم، دون الحاجة إلى النفط حتى، ولفاق تأثيره تركيا وإيران وربما مصر، لكن موقع العراق الجغرافي ومغامرات حكامه قادتنا إلى الخراب.
يمكن القول أيضاً أن للبلدان أقدار كما للبشر، وللعراق كدولة قدران تاريخيان لا ثالث لهما: إما أن يكون دولة قوية مؤثرة يمتد نفوذها شرقاً وغرباً، ويصل حدود تأثيرها السياسي والثقافي والاجتماعي إلى أصقاع بعيدة في آسيا وأفريقيا، أو أن يتحول إلى دولة ضعيفة هشة يتنازعها الأقربون والأبعدون، وساحة لتصفية الصراعات بين دول الجوار والعالم.
كان عراق الماضي دولة قوية يمتد تأثيرها إلى بقاع جغرافية قريبة وبعيدة، حتى تلك التي لا ترتبط معها بحدود مباشرة كفلسطين والجزائر، وشارك الطيران العراقي في حرب 1973، وكان جنود العراق هم السور الذي حمى دمشق من السقوط بيد الجيش الإسرائيلي في ذات الحرب، كما شارك في دعم بعض الفصائل في الحرب الأهلية اللبنانية، وهو الموقف الذي دار حوله لغط كبير فيما بعد.
ولم يقتصر تأثيره على هذه البلدان، بل ما زالت للعراق بصمات في معظم أقطار العالم العربي، كاليمن والسودان والجزائر وتونس وموريتانيا، وحتى بعض البلدان البعيدة النائية كالهند وباكستان وإرتريا، التي دعم العراق ثوارها ضد الاحتلال الإثيوبي لأرضهم.
وقد تعدى النفوذ العراقي الجانب العسكري؛ فشكلت الثقافة العراقية القديمة والحديثة مصدرا للإلهام الروحي والأدبي والاجتماعي لشعوب كثيرة، فأيقونات مثل أبو حنيفة وموسى الكاظم وعبد القادر الكيلاني وهارون الرشيد والمتنبي وأبو نؤاس وأبو فراس الحمداني و"ألف ليلة وليلة"، ومدن بغداد والبصرة والموصل والكوفة وسامراء وغيرها؛ كانت ولا تزال تشكل في المخيلة العربية والإسلامية عصرا ذهبيا يعيش الكثيرون في أفيائه ويتحدثون عن تفاصيله حتى اليوم.
وكانت قمة التراجيديا هو ما حصل بعد عام 2003 إثر الغزو الأمريكي، وانهيار الدولة وحل الجيش والأجهزة الأمنية، فتحول العراق إلى دولة فاشلة وفق التصنيفات العالمية، وأصبحت أرضه محرقة لصراع أجندات الدول المجاورة والبعيدة، فاحترق سكانه ثم جيرانه فيما بعد بالنار التي التهمته.
لا نريد اليوم أن نكون طماعين، ونرفع سقف طوحنا إلى مديات نعرف أننا دونها كثيراً، لكننا نطمح في استثمار عناصر قوة ثقافتنا على الأقل، وتوظيفها لصالح الاقتصاد العراقي، دون غيره، فالأغنية العراقية تكتسح اليوم منصات التواصل الاجتماعي، وملايين العرب باتوا يتقنون أو يسعون لإتقان اللهجة العراقية، بعدما كسرت مواقع الإنترنت الحظر الذي عاناه الإعلام العراقي التقليدي بسبب السياسة، كما بات أي مقطع عن العراق يستقطب ملايين المشاهدات ربما، فهل تمت الاستفادة من ذلك؟ وهل فكر صانعو القرار العراقيين –إن وجدوا- في جعل هذا الإعجاب والانبهار بالعراق بوابة للتنمية ودعم الاقتصاد؟ أم أننا ما نزال على موعد مع حروب آيدولوجية جديدة، ستحرق ما تبقى من أخضر العراق ويابسه، دون أن يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل؟!.

من: مروان الجبوري
15-05-2021, 14:15
المصدر: https://ejaz-news.iq/24--.html
العودة للخلف