لم يكن ينقص الشارع العراقي سوى وباءٌ معدٍ يرخي بظلاله القاتمة على الناس ويرهق حياتهم الاقتصادية والاجتماعية ليدفع بالفقراء منهم –وهم كثر- إلى الشوارع، يستجدون قوت يومهم. فتأثير جائحة كورونا فايروس تجلت بأعداد المتسولين المتزايدة منذ أن سجل العراق أول حالة إصابة بالمرض في شباط 2020. فيكاد لا يخلو أي تقاطع في العاصمة بغداد وباقي المحافظات من المتسولين والمتسولات وأطفالهن.
ورغم أن ظاهرة التسول موجودة في كل بلدان العالم إلا أنها تختلف في الأساليب والأهداف. ففي العراق، بات رائجاً أن تقف خلفها شركات تتعاقد مع اشخاص يستأجرون أطفالاً ونساءً وهذا ما يدرج وفق القوانين العراقية في خانة الإتجار بالبشر.
الأطفال المتسولون يتصدرون المشهد القاتم
بعد جهودٍ للإفلات من "إيجاز"، رضخ (محمد) لمحاولات اللحاق به، بعد أن رصدناه يمسح زجاج إحدى السيارات في حي الكرادة في بغداد عند تقاطع ساحة كهرمانة، "لست متسولاً، أريد أن أعمل، لكنهم لايأبهون لي، كم هو صعب أن يتركك صاحب السيارة تنتهي من تنظيف زجاجها ويكتفي بانتقادك، رافضاً إعطائي ولو مبلغاً بسيطاً بحجة أنه لم يطلب مني هذا العمل".
يضيف متلعثماً بعد الإلحاح في سؤالنا إن كان قد خرج من تلقاء ذاته أم دفعه شخص ما برفقة أطفال آخرين، "نعم، أنا لا أتمنى الخروج للشارع كالمتسولين، لكن زوج عمتي هو من يحتضنني مع أخوتي بعد وفاة أبي في تفجيرات (الكرادة)، وزواج أمي وسفرها، نعيش في منزل متهالك في منطقة البتاوين وسط بغداد، يوقظنا كل صباح فجراً مع أبنائه، وتأتي سيارة (كيا) تأخذنا لمناطق متفرقة من بغداد، ويؤكد علينا عدم الإفصاح عن موقع المكان الذي نسكن فيه، وعدم الحديث مع الأشخاص والكثير من الأوامر خوفاً من ملاحقة الأمن".
اللجوء للتسول بسبب جائحة كورونا، لم يقتصر على صغار السن، فما أن تحاول التجوال بالقرب من المطاعم والبنوك وأجهزة الصراف الآلي، حتى تتفاجأ بأعداد كثيرة من كبار السن والنساء ممن دفعهم الإغلاق وفقدان العمل لطلب المساعدة.
فلم يكن (أبو مصطفى عبد السلام) يتوقع أن فقدانه لعمله كسائق حافلة على خط بغداد/كربلاء، سيودي به لاستجداء معونة من ميسوري الحال، ممن يرتادون المنشآت السياحية وأصحاب الأموال في البنوك، يقول في حسرة "وجدت نفسي فجأة عاطلاً عن العمل، هذه الأوضاع أرغمتني على طلب المساعدة من أصحاب المال".
ويضيف في حديثه لموقع (إيجاز) "لستُ متسولاً كما يعتقد الكثير ممن أطلب المساعدة منهم، هي فترة لكسب لقمة العيش لحين إيجاد البديل".
الموقف الحكومي من تفاقم الأزمة، وإحصائية بالأرقام تنذر بالأسوء:
مجلس الوزراء العراقي، أصدر في آذار/مارس 2021 قراراً بضرورة القضاء على ظاهرة التسول من قبل وزارتي العمل والداخلية.
هناك ثلاثة أنواع من المتسولين، وفق ما أوضحه المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، يقول" النوع الأول هم المتسولون المحتاجون الذين تحت خط الفقر، يتسولون لتوفير أدنى مستوى من احتياجاتهم الفعلية، النوع الثاني هم الأشخاص من الجنسيات غير العراقية، وتقوم الوزارة بتسفيرهم وإبعادهم عن العراق، أما النوع الثالث فهو متعلق بعصابات الجريمة المنظمة، التي تستغل المتسولين".
وأضاف لـ (إيجاز):" خلال الحرب ضد تنظيم (داعش)، نزح ما يقارب من مليوني شخص الى العاصمة بغداد وباقي المحافظات، ما أجبر الأسر التي تضررت إلى دفع أطفالها للتسول، وآخر إحصائية من وزارة الداخلية العراقية بشأن أعداد المتسولين تفيد بأنه يوجد في بغداد أكثر من 140 ألف متسول، وفي البصرة نحو 100 ألف وفي ذي قار أكثر من 100 ألف وفي المحافظات الوسطى النجف- كربلاء- الديوانية- بابل نحو 160 ألف متسول. أما في محافظات (ديالى- الأنبار- صلاح الدين- كركوك- نينوى)، فهناك مايزيد عن 230 الف متسول".
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية، أكدت أنها ستقوم بإجراء مسح ميداني للمتسولين بالأماكن العامة تمهيداً لـشمولهم بخدمات الوزارة، والعمل على إنشاء مراكز اجتماعية بالتعاون مع الجهات الأمنية لإيداع الأطفال المتسولين فيها، والعمل على تأهيلهم نفسياً ومهنياً.
الباحث الاجتماعي ماجد جمعة، يقول" تفشت ظاهرة الأطفال المتسولين أكثر من بعد الحظر المنزلي الذي فرضه تفشي فايروس كورونا، فبعد إغلاق المدارس واللجوء إلى التعليم الالكتروني، تسرب عدد كبير من الاطفال من مدراسهم، ووجدوها فرصة للنزول إلى الشارع واستجداء المال، خصوصاً أن الأوضاع المعيشية والاقتصادية صعبة للغاية وتخلق أجواءً متوترة في المنزل، وتزيد من معدل العنف الأسري، مما جعل الشارع ختاماً بيئة جاذبة للطفل المتسول".
لا جديد مجدٍ...في القانون العراقي
التشريعات وحدها لا تفي بالمعالجة ما لم تسبقها استعدادات تعبوية شعبية وتوعية، بهذا القول وضح المحامي أركان بدري لـ (إيجاز)، يقول" التشريع الوحيد للحد من هذه الظاهرة كان في عام 1969 من خلال قانون العقوبات العام المرقم 111 والمعدل والمتضمن المواد التالية:
- المادة ـ 290/ يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر واحد ولا تزيد على ثلاثة أشهر كل شخص أتم الثامنة عشرة من عمره وجد متسولاً في الطريق العام والأسواق والأحياء السكنية وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنة إذا تصنّع المتسول الإصابة بجروح أو عاهة أو استعمل أية وسيلة أخرى من وسائل الخداع لكسب إحسان الجمهور أو كشف عن جرح أو عاهة أو في الاستجداء.
2- إذا كان مرتكب هذه الأفعال لم يتم الثامنة عشرة من عمره تطبق بشأنه أحكام مسؤولية الأحداث في حالة ارتكاب مخالفة .
3- المادة ـ 291/ يجوز للمحكمة بدلاً من الحكم على المتسول بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تأمر بإيداعه مدة لا تزيد عن سنة داراً للتشغيل من كان قادراً على العمل أو بإيداعه ملجأ أو داراً للعجزة أو مؤسسة خيرية معترفا بها إذا كان عاجزاً عن العمل ولا مال لديه يقتات منه، متى كان التحاقه بالمحل الملائم له ممكناً. 3
4- أما المادة ـ 292 فقد نصت على، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين، كلّ من أغرى شخصاً لم يتم الثامنة عشرة من عمره على التسول، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر والغرامة التي لا تزيد عن مئة دينار أو إحدى هاتين العقوبتين إذا كان الجاني وليا أو وصيا أو مكلفاً برعاية أو ملاحظة ذلك الشخص.
ويضيف (البدري)" ساهم تعاطف الرأي العام مع ظاهرة التسول في إخفاق تفعيل هذه القوانين باعتبار أن التعرض لهم عمل غير إنساني، وصعوبة تفعيل هذه القوانين يكمن أيضاً بسبب ضعف الأجهزة التنفيذية. وإن عدم سن قوانين وتعليمات مواكبة لتطور هذه الظاهرة أفرغها من كل فاعلية.
كورونا والفقر ..يغذيان ظاهرة التسول
تقرير صادر عن الأمم المتحدة صدر منذ شهرين واشتركت في إعداده منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي والبنك الدولي، أشار إلى أن الحكومـة العراقية تواجه مهـاماً صعبـة فـي محاولـة احتـواء فيـروس كورونا وحمايـة صحـة النـاس. وأكد التقرير أن الفئـات الأكثر ضعفـاً وهشاشـة، بمـن فيهـم النازحيـن داخليـاً واللاجئين والعائديـن مـن المخيمات، هم الأناس الأكثر تضرراً من جراء جائحة كورونا والإجراءات الحكومية التي ترافقت معها. مبيناً أن أربعون 40% في المئة من العراقيين البالغ عددهم 40 مليوناً، هم فقراء وفق البنك الدولي. وإن قرار خفض قيمة العملة المحلية سيؤدي على المدى القصير إلى زيادة أعداد الفقراء في البلاد بين 2.7 مليون و5.5 مليون عراقي.
واختتم التقرير بأن هذه الأعداد ستضاف إلى نحو 6.9 مليون عراقي هم موجودون أصلا قبل اندلاع أزمة جائحة كورونا.
من ليندا المرقبي
"تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR - صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا".