مضايقات وتهميش
إيجاز/ بغداد
يُكثر رياض من التلفت يمنة ويسرة ويمر بنظرات خاطفة على زبائن أحد مقاهي منطقة الكرادة في بغداد، قبل أن يوضح سبب قلقه البالغ: "إذا سمعنا أحدهم نتكلم عن تجربتي كملحد سأتعرض للقتل حتماً، وقد يصل الخطر أيضًا الى أسرتي، رغم أن أياً منهم لا يعلم أنني لا أؤمن بوجود الله".
رياض الصحافي البالغ من العمر ٢٨ عاماً والمقيم في العاصمة العراقية يعتقد أن الأديان اختراعات بشرية، وهو لم يصرح باعتقاده بشكل مباشر كي لا يتعرض للمسائلة والملاحقة من قبل الشرطة أو الميليشيات التابعة للأحزاب الدينية، حتى أنه يحذف دورياً جميع عمليات البحث التي يقوم بها على جهاز الكمبيوتر أو هاتفه المحمول بخصوص أي شي يتعلق بالإلحاد.
يتحدث رياض عن تجربته قائلاً:" لم أنوِ يوماً أن أصرح بمعتقدي أمام الناس بشكل مباشر، لكنني بحت بسرّي هذا لصديق لي في العمل بإحدى الوسائل الإعلامية التابعة لحزب سياسي ديني بعد أن أجبرتنا الإدارة على صوم شهر رمضان وقطع العمل أثناء وقت الصلاة فصرحت له عن معتقدي متذمراً".
يتابع رياض مسترسلاً:" بعد أيام لاحظت بأن زملائي لا يخالطونني واحياناً لا يردون عليّ التحية ،فاكتشفت بأن سري قد فُضح وكل من بالعمل أصبح يعرف أني ملحد"، مضيفاً:" كنتُ مميزاً في العمل، أحترم مواعيدي وشغوفاً بالأخبار ومراسلاً لم تستطع تلك الوسيلة التخلي عني حتى علموا بإلحادي فقاموا بفصلي دون وجه حق".
وسائل إعلام العراق تُدار بطريقة "الحجي"
مروان، صحفي عراقي يبلغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً، ويملك خبرة مهنية تتجاوز عقداً من الزمن، يتحدث عمّا يواجهه كصحافي ملحد في عمله:"الجميع يعرف أن معظم وسائل الإعلام هي أذرع تابعة وممولة من أحزاب سياسية، وبالنظر لطبيعة النظام العراقي الحالي المبني على المحاصصة الإثنية والدينية بالدرجة الأساس، فإن وسائل الإعلام تعكس بشكل كامل توجهات تلك الأحزاب وممثلة أعراقها وأديانها ومذاهبها، ليس في خطابها فقط، لكن في تعاملها مع موظفيها أيضاً".
ويضيف: "الصحافي الذي يعتبر خارجاً عن الملة أو غير مؤمن بذات الدين، أو حتى العقيدة والمذهب، يكون معرضاً للخطر الدائم، من إلغاء توظيفه وحرمانه من أي حقوق مترتبة من عمله، حتى رفض توظيفه من الأساس في حال اكتشافهم لتوجهاتهم الدينية"، مشيراً أنه وزملاء آخرين، عمدوا إلى إنشاء حسابات تواصل اجتماعي وهمية للتعبير عن رأيهم، وإبعاد آرائهم وتوجهاتهم عن الإطار العام "خشية من تبعات اكتشاف المؤسسات التي توظفهم لتوجهاتهم، وهو أمر قد لا يترتب عليه خطر فقدان الوظيفة فحسب، بل تهديد على الحياة الشخصية بسبب النظرة العامة لإدارات تلك المؤسسات لأفرادها، على أنهم جزء من الفصائل المسلحة التي تتبع تلك الأحزاب".
ويعرب مروان عن أسفه قائلاً: "وسائل الإعلام في العراق تتخذ نمط "الحجي" في الإدارة، حيث يكون المسؤولون عنها غير مختصين ولا حتى من العارفين بالإعلام، بل هم عادة من القيادات الرئيسة للفصائل المسلحة، ويترتب على ذلك تمييز ليس فقط ضد العاملين فيها من مخالفي التوجه الديني، بل تهديد مباشر لهم".
ويردف أن بعض الوسائل مستثناة من ذلك عبر انتهاجها"سياسات تحاول من خلالها إظهار صورة مدنية لمتابعيها، وحتى تلك لا تخلو من التمييز داخل بيئة العمل ضد المجتمع اللاديني، فهم معرضون دائماً للطرد وسلب الحقوق أكثر من غيرهم، بالإضافة إلى إساءة التعامل معهم بشكل دوري، والتي تصل أحياناً إلى التهديد بالعنف الجسدي والقتل".
ويتابع: "تعمل بعض وسائل الإعلام على بث الخلافات بين فريق العمل داخل المؤسسة كوسيلة للسيطرة، وتستخدم في العادة خلاله التوجهات الدينية للأفراد لاثارة النعرات الطائفية، كما تستخدم توجهات الأفراد من المجتمع اللاديني أو الملحد ضدهم في العمل من خلال تعريضهم لخطر مباشر عبر أعمال توكل إليهم على عكس أقرانهم، فهم بنظر المؤسسة زوائد يمكن بسهولة التخلي عنهم، وتحميلهم مسؤولية سلوكياتها أمام الأحزاب والجهات السياسية الأخرى"، ويشرح الفكرة الأخيرة: "من أمثلة ذلك، تحميل مسؤولية ما تنشره تلك الوسائل للصحفيين اللادينيين أنفسهم عن أعمال كلفتها بهم، بدلا من تحملها هي".
ويختم مروان :"الصحافي الملحد أو اللاديني يعلم يقيناً انه لن يتعرض للتمييز والإساءة المستمرة أثناء العمل وفرض واجبات ومهام خطيرة وغير مرتبطة بعمله الاساسي وحسب، بل هو الضحية الأولى لأي مسؤولية تقع على وسيلة الإعلام بسبب مخالفتها أي قانون، وهو الأول الذي يتم التضحية به في حال تم تقليص الكادر أو في حال أثار غضب وسخط أحد الشخصيات الأخرى في المؤسسة الإعلامية والتي تعتبر من متبني الفكر والعقيدة والدين التي تعتنقها إدارة المؤسسة".
من هم الملحدون في العراق؟
تحديد الإلحاد في العراق أمر متشابك، إذ يخلط عدد من رجال الدين المقرّبين من الأحزاب الدينيّة في هذا الأمر، وعلى سبيل المثال، يجري وصم العلمانيّة كمبدأ لفصل الدين عن الدولة بالإلحاد، ويروّج بعض رجال الدين إلى أن الإيديولوجيّات الليبراليّة والشيوعيّة في صميمها لا تؤمن بالأديان ولا بوجود الله، وهو ما يدعو إلى مواجهتها، كما قال رجل الدين عامر الكفيشي في آب/أغسطس 2017 ،تحدث عن ذلك أحمد – 31 عاماً- ، وهو صحافي ملحد من بغداد.
يقول أحمد الذي رفض كزملائه ذكر اسمه الثنائي :"لا نعرف في العراق من هو الملحد، فكل من هو مخالف لرأي الأغلبية المسلمة هو كافر وملحد حتى لو كان توجهه الاقتصادي أو السياسي مغايراً، فأحياناً يصنف بعض رجالُ الدين العلمانيين ككفار".
ويضيف:"من المعتاد جداً أن يتم إقصاء وحرمان الصحافي الملحد من أي وظيفة أو حقوق بناء على موقف شخصي من الإدارة بسبب توجهاته الدينية، الأمر الذي يدفع غالبية الصحافيين الملحدين لإخفاء تلك التوجهات عن المؤسسات التي يعملون بها"، ويتابع أن أشكال التمييز قد تتضمن أيضاً "المضايقات الشخصية، والإساءة المستمرة، والتهديد".
أحمد الذي يعمل حالياً في قناة تابعة لجهة دينية، يبرر ذلك بالحاجة المادية، فلو "كان لي مشروع يغنيني عن الراتب الذي أتقاضاه في هذه القناة فسأترك العمل فوراً"، معرباً عن ضيقه المستمر بسبب اضطراره على أداء "الصلاة والصيام والتماشي مع آرائهم وأفكارهم وتأييدها وانا أخفي عكس ذلك تماما".
لا تختلف رؤية أحمد عن رؤية هدى (اسم مستعار)، وهي صحفية ملحدة من بغداد في أواسط العشرينيات من العمر، تعمل في عدة وكالات إخبارية كمحررة للأخبار، فهي ترى أن "الصحافي الملحد أو اللاديني في العراق هو الحلقة الأضعف في المؤسسات الإعلامية المحلية، والأكثر تعرضاً للعنف، والتهديد الجسدي، والطرد والحرمان من الحقوق وكذلك المضايقات المستمرة من الإدارات".
وتعدد الصحافية الشابة المزيد من أشكال التمييز التي قد تمارس بحق الصحافي أو الصحافية الملحدة، ومنها "حرمانه المتكرر من رواتبه ومخصصاته عكس أقرانه وبشكل علني، بالإضافة إلى منعه من أداء عمله بشكل صحيح بهدف تحميله مسؤولية الفشل، وإيقاف أي تقدم وظيفي قد يحرزه في مجال عمله الصحافي بما يشمل الترقيات والرواتب والحقوق الأخرى، بالإضافة إلى تحميله مهام أخرى بهدف إراحة أقرانها ممن يتبعون نهج المؤسسات الأيديولوجي".
وتستذكر هدى حادثة شخصية وقعت معها خلال عملها:" كنت حينها أعمل في قناة تابعة لجهة دينية علمت بتوجهاتي حين لاحظ بعض زملائي.. بأني لا أصوم في رمضان فمُنعت عني الترقية إلى منصب سكرتيرة التحرير وحلت بدلي زميلة ترتدي (الجبة) والحجاب الإسلامي وانا أكفأ منها وأكثر خبرة".
تضيف قائلةً:" كصحفية ملحدة، مهما كانت مؤهلاتك وقدراتك، ستكونين محظوظة جداً بأن تجدي مؤسسة تقبل توظيفك، ولن تكوني محظوظة جداً إن حصل هذا فعلا واكتشفت المؤسسة توجهاتك الأيديولوجية، لأن ما ستتعرضين له، سيقود إلى فقدان حقوقك، وكرامتك، وأحياناً تهديد حياتك".
وتختم:"هناك استثناءات.. مؤقتة، فقد تُبقي وسيلة الإعلام على صحفي ملحد أو لاديني حتى تتدبر البديل المناسب، أما وسائل الإعلام التي تقبل بتوظيف اللادينيين بناء على مؤهلاتهم فهي محدودة جدا".
العراق والملحدون
يعتبر الإسلام دين الدولة في العراق ولم يكتف المشرع الدستوري العراقي في دستور عام 2005 النافذ بانتحال الإسلام دينا رسميا للدولة إنما اتجه ناحية اعتباره مصدرا أساسيا للتشريع فيها، يتوجب عليها استمداد تشريعاتها من قواعده وأحكامه، بقوله في الفقرة الأولى من المادة الثانية من الباب الأول الموسوم بباب المبادئ الأساسية: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع"، إضافة إلى وجود ديانات معترف بها دستورياً كالمسيحية وإلايزيدية والصابئة المندائية، وعدد من الأقليات الأخرى التي لم يُعترف بها دستورياً. وإلى جانب الأديان، فإن شريحة من المجتمع لا يعرف عددها أو نسبتها هي من الملحدين، يلاحق بعضهم من قبل الشرطة أو المليشيات المسلحة مستندين على قانون العقوبات المرقّم 372 المقرّ في عام 1969، والذي عدّل في عام 1995 على يد النظام السابق.
ولا ينصّ القانون على عقوبة تتضمّن الإلحاد في شكل صريح، وإنّما يتمّ حبس بين عام وثلاثة أعوام "كلّ من اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينيّة أو حقّر من شعائرها"، وأيضاً "كلّ من تعرّض بإحدى طرق العلانية للفظ الجلالة سبّاً أو قذفاً بأيّ صيغة كانت".
وهذا ما يؤكده القانونيّ أحمد حسين بقوله: "لا توجد مادّة في قانون العقوبات العراقيّ تعاقب في شكل مباشرة على الإلحاد، وكذلك لا يوجد قانون خاصّ بمعاقبة الملحدين، وإنّما هناك مواد تعاقب على ازدراء الأديان، كقانون 372".
ويضيف :" هناك تضارب بين القانون 372 والدستور العراقيّ الذي أُقرّ في عام 2005"، ويشير إلى أنّ "الدستور في المادّة 43 أتاح حرّيّة المعتقد والتوجّه الفكريّ لكل العراقيين".
وفي ظل عدم وجود دراسات أو إحصائيات في العراق تتحدث عن المعتقدات والانتماءات، لا يمكن معرفة العدد الحقيقي للملحدين في البلاد، وذلك لما قد يترتب من مخاطر أو تداعيات اجتماعية على الشخص الذي يصرح بإلحاده بشكل مباشر.
وتحوز صفحة "الملحدون العراقيون" على منصة فيسبوك على أكثر من 13 ألف وخمسمئة معجب ومعجبة، بعضهم يستخدمون حسابات مستعارة.
وفي دراسة لمؤسّسة غالوب، وهي من المؤسسات الرائدة عالمياً في استطلاعات الرأي، فإن نحو 88% من العراقيّين هم من المتديّنين. ووفقاً للدراسة التي صدرت عام 2013، فقد حلّ العراق في المرتبة السابعة عالميّاً لناحية تديّن سكّانه.
وفي استطلاع أجرته منصة البارومتر العربي البحثية المستقلة عن الآراء في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي شارك فيه أكثر من 25 ألفا من سكان عشر دول عام 2019، إلى وجود طيف واسع من الآراء حول الدين ، وقد كشف الاستطلاع أن عدد الشباب العربي الذين يديرون ظهورهم للدين والتدين في تزايد مستمر.
فمنذ عام 2013، ارتفعت نسبة "غير متدينين" من 8 في المئة إلى 13 في المئة عام 2019 على مستوى المنطقتين، ويصف 8% من العراقيين أنفسهم بأنهم غير متدينين فضلاً عن ثلث التونسيين وربع الليبيين ايضاً، أما في مصر فقد تضاعف حجم هذه المجموعة بينما تضاعف حجمها أربع مرات في المغرب.