[spoiler][/spoiler]احمد عباس _ بغداد
تشهد العاصمة العراقية بغداد، للمرة الأولى في تاريخها، عمليات تشييد أبراج سكنية وتجارية وفنادق تتجاوز الارتفاعات المعروفة لبعض الأبراج السكنية الأكثر ارتفاعاً في العاصمة، مثل "حيفا" التي تتكون من 16 طابقاً وأنشئت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ويتم العمل حالياً على تشييد وبناء أكثر من 100 برج سكني وتجاري بارتفاعات مختلفة في أبرز مناطق العاصمة حيث تشهد كثافة سكانية وزحمة مرور طوال اليوم.
ومن أبرز هذه الأبراج التي أنجزت هياكلها، بناية البنك المركزي العراقي الجديدة المكونة من 38 طابقاً، ومجمع "بروج السكني" بارتفاع 25 طابقاً و"بوابة العراق" بـ 17 طابقاً، ومجمع "النسيم السكني" بـ 16 طابقاً، وغيرها من المشاريع قيد الإنشاء التي يتكون بعضها من أكثر من 30 طابقاً.
وتشهد بغداد منذ عام 2014 وحتى الآن إنشاء نحو 25 مجمعاً سكنياً عمودياً تضم آلاف الوحدات السكنية التي لم يتمّ بيع جزء كبير منها بسبب الأسعار المرتفعة، ما دفع الحكومة الى إصدار تعليمات للمصارف بتوفير قروض للمواطنين الراغبين بالشراء فيها.
ويبدو أن الحكومة العراقية غير راضية عن هذا التوجه خصوصاً داخل المناطق المزدحمة في العاصمة لكنها لم تستطع إيقاف هذه المشاريع لكونها حاصلة على موافقات رسمية من الحكومات العراقية السابقة، وقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في كلمة له خلال لقائه عدداً من مسؤولي الأجهزة الخدمية والأمنية في العاصمة إن "بغداد أصبحت مدينة كونكريت، فأكبر جريمة في بغداد منح موافقات لإعطاء بنايات في أرض مطار المثنى لكوني كنت آمل في أن تتحول الى منطقة خضراء".
وأعطت الحكومة العراقية السابقة برئاسة عادل عبد المهدي، عام 2019، الموافقة على إنشاء مجمع سكني باسم "دارس السلام" الذي يتكون من 32 عمارة سكنية تتراوح ارتفاعاتها من 15 إلى 26 طابقاً على أرض مطار المثنى العسكري، والذي يقع في قلب مدينة بغداد، وقرب المنطقة الخضراء، ويقع بجانبه طريق رئيس يصل وسط العاصمة بشمالها.
ودعا الكاظمي إلى بناء مدن ومجمعات سكنية عصرية خارج العاصمة بغداد من أجل عدم رفع أسعار العقارات والتقليل من مشكلات المرور التي تعاني منها العاصمة، وشهدت سوق العقارات في العاصمة بغداد ارتفاعاً كبيراً وصل إلى الضعف في بعض المناطق مقارنة بالسنوات الماضية، وأدى هذا الأمر إلى تضرر الطبقة الوسطى التي أصبحت مدخراتها الشخصية غير قادرة على منافسة أصحاب مكاتب العقارات والمستثمرين في هذا القطاع الذين استحوذوا على غالبية أعمال البيع والشراء وتحديد الأسعار.
وأعربت المختصة بالشأن الاقتصادي سلام سميسم عن استغرابها لإعطاء الموافقات لإنشاء هذه الأبراج ما خنق العاصمة أكثر مما هي عليه، وقالت إن "إعطاء موافقات للمباني ضمن مساحات فارغة أو زراعية في بغداد فاقم مشكلة التصحر، وأيضاً مشكلة الكوارث البيئة في العاصمة، وخنق المدينة التي تعاني أصلاً من هذه الأزمة"، مشيرة، في الوقت عينه، إلى عدم وجود جدوى اقتصادية من إنشاء هذه البنايات لكونها مخصصة لأصحاب الدخل المرتفع، كما أنها تزيد العبء على الخدمات في العاصمة.
وقال حيدر محمد عبد الحميد الأستاذ بقسم الهندسة البيئية في جامعة بغداد إن "الأبنية بمساحات عالية تؤثر على تهوئة المدن لتكون حائط صدّ لانتقال الأوكسجين داخل المدن"، موضحاً أن "هذا النوع من الحضارة الكونكريتية له تأثير سلبي على البيئة، وهذه الأبنية بارتفاعات عالية تؤثر على تهوئة المدن ومسارات واتجاهات الهواء النقي إلى داخل المدينة، لافتاً الى أنها تمثل حائط صدّ في انتقال الأوكسجين داخل المدينة، والتأثير على البنى التحتية كإمدادات الماء والمجاري"، وأشار عبد الحميد إلى أن جودة هواء المدن ستتأثر، وستصد التيارات الباردة بالصيف والدافئة بالشتاء بالتزامن مع مشكلة تحول المناطق الزراعية الى أبنية.
وفيما تتحدث المراكز الدولية والتقارير الصادرة من الأمم المتحدة، عن وجود أكثر من 150 منطقة ساخنة بيئياً في مناطق واسعة من العراق، فأن وزارة الزراعة العراقية تؤكد حاجة البلاد الى 14 مليار شجرة لإحياء المناطق التي تعاني من التصحر.
يقول المختص في الشأن البيئي علي الخفاجي، إن هناك "أكثر من عشرين منطقة في العراق تحتاج إلى التدخل السريع لحل مشاكلها البيئية".
ويشير إلى "وجود مناطق زراعية واسعة في محافظات الأنبار والمثنى وذي قار انتهت بيئياً، بسبب تكرار مواسم الجفاف وانخفاض تدفق المياه في دجلة والفرات، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية ثم زيادة نسبة الملوحة".
ويقول باحثون في الشأن البيئي، إن "استمرار الدولة بإنشاء المدن والمجمعات السكنية على نطاق واسع، وتدمير الأراضي الزراعية دون تعويض البساتين والاراضي الخضراء، يضع العراق أمام مرحلة صعبة بيئياً، وستؤثر ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير على حياة المواطنين وصحتهم بشكل مباشر".
وقبل إعلان الحكومة، المباشرة بإنشاء مجمعات ومدن سكنية داخل وخارج العاصمة بغداد، أكدت وزارة الزراعة أن بغداد "لم تعد ملائمة للسكن".
وقال المتحدث باسم الوزارة حميد النايف ان "تراجع المساحات الخضراء في العاصمة العراقية التي باتت مهددة بالتصحر، حولها إلى مدينة غير صالحة للسكن".
وتابع أن "20% إلى 30% من المساحات الخضراء مهددة بالتصحر".
ولفت المسؤول العراقي إلى أن "مواجهة التصحر عبر زراعة الأحزمة الخضراء، بحاجة إلى مبالغ طائلة وبرنامج وطني واستراتيجية واضحة، مبينا أن "الوضع في بغداد، بات غير ملائم للسكن، لا سيما بجانب الرصافة بسبب قلة المساحات الخضراء".
من جانبه طرح وزير المواد المائية السابق حسن الجنابي، مشروعه، كحل جذري لعلاج ظاهرة التصحر في العراق، والتي بدأت تهدد الحياة في المدن والأرياف.
يقول الجنابي في مشروعه: "يمكن تأسيس هيئة أو وزارة مختصة بالحزام الوطني الأخضر، تخوّل بالعمل على تنفيذه وتهيئة الشروط المناسبة لإنجاحه، بما في ذلك إطلاق البرامج والسياسات الخاصة المطلوبة لإنجازه، والإشراف على مراحل العمل به والاتصال بالوكالات الدولية المختلفة والتعاقد معها، ومع الدول الأخرى التي نجحت في أعمال مشابهة".
ويشير إلى أن "الغطاء الأخضر في العراق تقلص أمام التمدد الصحراوي بسرعة كبيرة، وتتكاثف شدة وتواتر العواصف الترابية بشكل غير مسبوق، ويسبب ذلك أضرارا بيئية واقتصادية وصحية كبيرة في العراق، ويقضي على التنوع الأحيائي في البيئة، كما يهدد الصحة العامة للسكان ويؤدي إلى تفشي الفقر والأمراض والهجرة".
ويرى الجنابي أن "الحزام الوطني الأخضر يمثل في حال إنشائه، خط الدفاع الأول للعراق، من أجل مقاومة الزحف الصحراوي وإيقافه عند الحدود الغربية لأرض الجزيرة العراقية الخصبة تاريخياً، غربي نهر الفرات، وهو مشروع مقترح يمتد من شمال الموصل حتى جنوب البصرة".
ويتابع: "تتراوح المدة التي يستغرقها إنجاز المشروع بين 5 و10 سنوات، اعتماداً على حجم الموارد المالية البشرية المتاحة، وظروف العمل في مناطق غير مأهولة من العراق، ومديات استجابة السلطات المحلية في المحافظات العراقية المختلفة".
"ولكن ما هو أكثر أهمية في هذا المشروع، هو مرحلة ما بعد الإنجاز اي فترة الادامة والصيانة والإنتاج، وهذا ما يميز المشروع عن مشاريع البناء والإعمار الاخرى"، يضيف الجنابي.
ويبيّن أن "مشروع الحزام الأخضر سيساهم بخلق فرص عمل لآلاف المواطنين العراقيين من مختلف المحافظات وتحريك الاقتصاد الوطني وتعلم ممارسة مهن وأنشطة اقتصادية أخرى، ليكون طول الحزام الوطني بحدود (1000) كم، وبمعدل عرض 3 كم، وعلى أساس 20 متراً مربعاً للشجرة الواحدة وافتراض نسبة نجاح في زراعة الأشجار تبلغ 70% (أي موت المزروعات بنسبة 30%)، فإن المشروع بحاجة إلى (220) مليون شجرة من مختلف الأنواع مثمرة أو غير مثمرة".
ويدعو الوزير السابق إلى "عقد مؤتمرات دولية حول ظاهرة الغبار والأتربة والزحف الصحراوي وارتفاع معدلات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة في العراق والمنطقة، ودراسة تأثير ذلك على الصحة العامة وحركة النقل والمواصلات والإنتاج الزراعي، بالتالي الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة، لغرض وضع الحلول العاجلة".
من جانبه يقول الباحث والاكاديمي احمد عبد العال، أنه "في السابق كانت أغلب البيوتات البغدادية تحتوي على حدائق بمساحات مختلفة مزودة بخطوط الماء المخصصة لسقي المزروعات فقط".
ويضيف: "كل هذا اختفى. فعندما يكون سعر المتر المربع الواحد في منطقة سكنية معينة ثلاثة آلاف دولار مثلاً، فإن آخر ما يخطر على بال أحدهم أن يوفر مساحة خضراء".
ويبين، أن "البيوت الآن تحولت إلى علب خرسانية خانقة بسبب غياب المساحات الخضراء واختفاء البساتين المحيطة ببغداد، ما زاد من مشكلة التصحر وتردي البيئة".
ومع الانفجار السكاني للعراق والذي يزداد بمعدل مليون و250 ألف مولود في السنة الواحدة، ندرك حجم التحدي المخيف لهذه الكتلة البشرية المتنامية والمتكدسة في مدينة بغداد".
ويوضح عبد العال أنه "مع أكثر من ثمانية ملايين شخص يشتركون في مساحة 200 كيلومتر مربع، لنا أن نتخيل حجم النفايات التي تُفرز لو استهلك كل شخص أربع عبوات مياه على الأقل، فنحن أمام 36 مليون عبوة بلاستيك من النفايات مع عدم حساب مئات الملايين من الأكياس البلاستيكية المستخدمة للتسوق، وملايين العبوات المخصصة للأطعمة والمأكولات والتوصيل المنزلي السريع".
ويضمن التصميم الأساسي للعاصمة بغداد على نسبة مناسبة من الأوكسجين إذ كانت المناطق الخضراء تشغل ما نسبته 40 في المئة و60 في المئة منها للسكن، إلا أن المعادلة تغيرت وتراجعت المساحات الخضراء إلى 10 في المئة فقط من المساحة الكلية، ما يعني أن العاصمة فقدت 75 في المئة من نسبة الأوكسجين بحسب التصميم الأساسي، وتحتفظ بـ 25 في المئة فقط.
التقرير بدعم من صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية UNDEF ومؤسسة صحفيون من أجل حقوق الإنسان jhr