سجلت إصابات ووفيات كبيرة
بعد عودته من رحلة نزوح قسري استمرت ثلاث سنوات؛ بدأ محمد النايف في حزم أمتعته مجدداً، استعداداً لرحيل آخر ألجأته إليه ظروف مختلفة هذه المرة، بعدما بدأت أكوام النفايات القادمة من بغداد بالتكدس أمام منزله، مكوّنة ما يشبه التلال الصغيرة، وما رافقها من روائح كريهة وأدخنة لوثت سماء المنطقة، وآذت أفراد أسرته الصغيرة التي يعاني بعضها من مرض الربو.
ووفقا لمتحدث وزارة الصحة سيف البدر، فأن المناطق الفقيرة سجلت وفيات اعلى مقارنة بنظيراتها من المناطق الثرية، لاسباب تتعلق بالوعي الصحي، واخرى بالكلفة المادية للعلاج والمستشفيات.
وسجلت ناحية النباعي منذ بدء ازمة كورونا نحو 378 حالة وفاة، شمالي بغداد، وبحسب الطبيب مؤيد ياسين، الذي يعمل في احد المراكز الصحية في قضاء الطارمية، فان منطقة النباعي تعاني من تراكم النفايات وتصاعد الادخنة جراء احراق كميات كبيرة من النفايات.
"لن أعود للسكن في النباعي مرة أخرى، فقد حولت النفايات حياتنا إلى جحيم" يقول النايف وهو يجلس على دكة منزله المعروض للبيع، مضيفاً إنه سيتوجه نحو مركز قضاء الطارمية للاستقرار مع أسرته هناك، ولا يفكر بالعودة إلى منطقته للسكن فيها.
وعلى الطريق الواصل بين بغداد والدجيل تقع ناحية النباعي، بلدة صغيرة هادئة، لا يعكر صفو الحياة فيها سوى أحداث أمنية متفرقة بين الحين والآخر، خفّت وتيرتها كثيراً خلال السنوات الأخيرة، قبل أن تطفو مشكلة النفايات على سطح الأحداث اليومية هناك، وتصبح مادة تلوكها الألسن كل يوم، ما بين مشتك من التلوث الذي أصاب بلدته الريفية، وآخر عازم على الرحيل.
محاولات ووعود
لم تفلح المحاولات التي بذلها عدد من شيوخ العشائر لحل المشكلة، بعد أن طرقوا الكثير من الأبواب دون استجابة، وهو ما يؤكده الشيخ عبد الرحمن الريشاوي أحد وجهاء المنطقة الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 15 ألف نسمة تقريباً.
يشير الريشاوي في حديثه لـ"إيجاز"، إلى أنه تواصل مع رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وعدد آخر من النواب والسياسيين، مثل هيبت الحلبوسي وليث الدليمي وصالح المطلك وسواهم، لكنه لم يحصل سوى على الوعود التي تتبخر إثر كل شحنة نفايات قادمة من بغداد، لتوارى ثرى الناحية.
ويتهم الريشاوي أمانة بغداد بالوقوف وراء ما يصفه الجريمة الموجهة ضد الإنسان والبيئة، لافتاً إلى أن شاحنات تابعة للأمانة تقوم كل يوم بجلب النفايات من العاصمة لدفنها أو حرقها أو تركها كما هي، مكوّنة أكواماً من المخلفات ذات الروائح الكريهة والنتنة، التي تتجمع حولها القوارض وشتى أنواع الحشرات.
"لم نعد نطيق الحياة في بلدتنا، بعضنا قرر الرحيل، والبعض الآخر أصبح ينام داخل سيارته مع أسرته، للحصول على هواء نقي وهرباً من الروائح التي تقتحم الأبواب والنوافذ لتحيل حياتنا إلى جحيم" يضيف الريشاوي.
وذكرت مصادر محلية لـ"يإجاز" أن عملية طمر النفايات تتم في أرض تقدر مساحتها بنحو 300 دونم، من مجموع 105 آلاف دونم هي مساحة الناحية، المشهورة ببساتينها وأراضيها الزراعية الخصبة.
ووفقا للريشاوي؛ فإن تلال النفايات هذه قد أثرت على الزراعة والآبار الارتوازية وأحواض السمك المنتشرة هناك، فضلاً عن حرمان المنطقة من الاستفادة من اثنين من أهم ثرواتها الطبيعية، وهما الحصى والرمل، اللذان تشتهر بهما الناحية، التي كانت في السابق مصدراً لتزويد المصانع وشركات البناء وتعبيد الطرق بهاتين المادتين المهمتين.
تحرّكات دون جدوى
ورغم كثير من الوعود التي رافقت زيارات مسؤولين إلى الناحية بالمساعدة على حل المشكلة إلا أن شيئاً لم يتغير، مما دفع عدداً من الشباب هناك للقيام بحملات إعلامية تطالب بإنقاذ النباعي من أزمة النفايات، التي لم تأخذ حظها من تسليط الضوء عليها إعلامياً، كما يؤكد عدد من الأهالي.
يونس المشهداني واحد من الشباب الذين أخذوا على عواتقهم مهمة التوعية بخطر ما يجري في البلدة من تلوث طال كل شيء، وبات يشكل خطراً داهماً على السكان.
يقول المشهداني إنهم تواصلوا مع جهات رسمية في الحكومة وأكدت لهم أن موقع الطمر غير رسمي، وأن ما يجري مخالف للقانون، ورغم أن ممثلة عن أمانة بغداد زارت المنطقة وشاهدت بعينيها حجم الكارثة الصحية والبيئية هناك، ووعدت بحل المشكلة، لكنها لم تعد مجدداً، ولم تتخذ مؤسستها أي إجراء لحل المشكلة.
ووفقاً للناشط الشاب فإن عمليات الطمر أثرت بشكل واضح على الزراعة، لأن المنطقة تعتمد على المرشات المحورية، وما جرى قد أثر على الحقول المجاورة، بما فيها من زرع وماشية وأسماك، وهو ما أفقد الناحية جزءاً مهماً من ثروتها الاقتصادية.
ويضيف أن عوائل كثيرة نزحت بسبب الطمر غير الصحي نحو صلاح الدين وبغداد والأنبار وإقليم كردستان، حيث تنشط حالياً عمليات بيع المنازل والأراضي الزراعية والسكنية، وبدا ذلك واضحاً في تغيّر أسعار البيوت، حيث هبطت أسعار بعضها من 70 مليون دينار إلى 20 فقط، لأن المنطقة باتت طاردة وغير جاذبة أبداً، بحسب تعبيره، بعدما امتلأت سماؤها بالدخان والغازات المضرة والروائح التي تزكم الأنوف.
حالات مرضية تنذر بالمزيد
قصص الحالات المرضية كثيرة هنا، ربما أكثر من المألوف في بلدة ريفية صغيرة كهذه، يتناقلها الأهالي في مجالسهم، يحكون عن إصابات بعدة أمراض تسارعت وتيرتها خلال الأعوام الأخيرة، مذ بدأت الأجواء بالتغيّر هنا.
رافد حازم هو أحد سكان الناحية المصابين بالسرطان حديثاً، يؤكد أن الأطباء أخبروه بأن سبب إصابته يعود إلى تلوّث الجو في منطقته، بمعدلات غير اعتيادية، مما أدى لوقوعه فريسة لسرطان الكلى، قبل أن يتم رفعها بعملية جراحية.
أفراح عبد الرحمن هي ضحية أخرى، أصيبت بمرض في جهازها التنفسي بسبب الطمر غير الصحي، وما يتبعه من رائحة وغازات، دفعتها لإجراء عملية جراحية في الأنف، لكنها لم تنجح، بالإضافة إلى قصص أخرى كثيرة.
وتؤكد مصادر طبية محلية ارتفاع عدد الإصابات بالأمراض السرطانية والجلدية والتنفسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مرجعة السبب إلى عمليات الطمر غير الصحية هذه، وما تخلفه من آثار خطيرة على البشر والبيئة.
ويحكي باسم محمد عبد وهو طبيب في المركز الصحي بمنطقة المشاهدة القريبة من الناحية؛ عن تزايد أعداد المصابين بأمراض مختلفة، مثل التدرّن والجرب وسرطان الغدد اللمفاوية والتحسس، وغيرها، يقابلها عجز عن توفير العلاج والدواء للمصابين بها في المنطقة.
ويشير في حديثه لـ"ايجاز"، إلى أن المشكلة ظهرت منذ نحو ثلاث سنوات، حين بدأت أمانة بغداد بجلب النفايات إلى الناحية، عبر سائقي شاحنات يقومون بنقلها ليلاً وإلقائها في المنطقة المذكورة، مما أدى إلى ارتفاع نسب التلوث الناجمة عن عمليات الحرق وتكاثر الحشرات والقوارض، بالإضافة إلى تصاعد غازات الميثان والأمونيا وثاني أوكسيد الكبريت من المخلفات المحروقة، حتى باتت رائحتها تصل إلى ما يقرب من 15 كيلومتراً بعيداَ عن مكان الحرق.
وبحسب خبراء بيئيين فإن عملية الطمر الصحبة تستلزم دفن النفايات بعمق يتراوح بين 3-4 أمتار في باطن الأرض، وهو خلاف ما يجري حالياً، حيث تتناثر النفايات على مساحة واسعة من الأرض، قبل حرقها بشكل عشوائي.
صمت رسمي
وفضلاً عن التعتيم الإعلامي على القضية؛ فإن ثمة صمت رسمي غير واضح الأسباب يدفع المسؤولين لرفض تفسير ما يجري، وهو ما واجهناه خلال إعداد هذا التقرير، فقد حاولنا الاتصال مراراً بمدير الناحية، إلا أن محاولاتنا باءت بالفشل.
وكذا الحال مع أمانة بغداد، التي كنا نريد سؤالها عن طبيعة هذه المواد، ومن الذي منحهم الموافقة على دفنها هناك، إلا أننا لم نوفق بالحصول على أي جواب منهم.
ولأن الأرض التي تدفن فيها النفايات تابعة لوزارة الصناعة والمعادن –كما يؤكد أهالي الناحية- فقد طرقنا أبواب الوزارة كذلك، وكان الجواب هو التجاهل كالعادة، إلا أن مصدراً رفض الكشف عن اسمه داخل الوزارة أكد لنا أن الجهة التي تقوم بدفن النفايات هي أمانة بغداد.
وأوضح المصدر أن ردود أفعال الجهات الرسمية لم تتجاوز الوعود بحل المشكلة، عبر تشكيل لجان لمتابعتها على الأرض، وتعهدات برفع شكاوى ضد الأمانة بسبب تعدّيها على أرض تابعة للوزارة، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بسبب نفوذ جهات حزبية مستفيدة من عقد الطمر غير الصحي هذا، بكل ما فيه من فساد مالي على حساب أرواح المواطنين.
في انتظار المجهول
ورغم تزايد الحالات المرضية الخطيرة في الناحية؛ إلا أن ذلك لم يدق ناقوس الخطر لدى وزارة الصحة والبيئة، التي اكتفى وكيلها جاسم الفلاحي بالقول إن ما يجري هو تعدٍ من أمانة بغداد، وإن من أولويات وزارته للعمل البيئي هي حماية الهواء من كافة أشكال الملوّثات، ومنها الحرق العشوائي ومواقع الطمر غير النظامية، لما لها من تأثير سلبي على صحة الإنسان والذوق العام.
وأضاف أن الوزارة ستقوم باتخاذ "الإجراءات القانونية والإدارية" لمنع الحرق في مواقع الطمر القريبة من بيوت المواطنين، ومتابعة الموضوع مع الجهات المختصة لنقل مواقع الطمر بعيداً عن الأحياء السكنية وخارج حدودها الإدارية، وضمان معالجة التلوث الناتج عن عمليات الحرق غير القانونية، بحسب تعبيره.
وهكذا؛ فإن معاناة أهالي هذه الناحية تستمر، وتذهب صرخاتهم أدراج الرياح منذ شهور، بانتظار أن تنالهم "مكرمة" من مسؤول أو سياسي، ربما لضمان أصواتهم قبيل الانتخابات، كي تتحول من مشكلة خدمية تأخرت الحكومة في حلها؛ إلى إنجاز كبير يذهب إلى رصيد هذا السياسي أو ذاك، وفي غضون ذلك تستمر عمليات الحرق العشوائي لتلوّث ما تبقى من البيئة في تلك الناحية المنكوبة.
من أحمد هادي
"تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR - صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا".